منتـــدى SkAnDeR لكــل العــرب
تاريخ فلسطين**2** 13401713
منتـــدى SkAnDeR لكــل العــرب
تاريخ فلسطين**2** 13401713
منتـــدى SkAnDeR لكــل العــرب
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


أحـلى الأوقـات مـع أحـلى المنتـــديات
 
الرئيسيةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 تاريخ فلسطين**2**

اذهب الى الأسفل 
كاتب الموضوعرسالة
zina
ك.ش
ك.ش
zina


مهنتك مهنتك : تاريخ فلسطين**2** Studen10
الهوايات الهوايات : تاريخ فلسطين**2** Unknow10
رسالة sms رسالة sms : بسم الله الرحمان الرحيم :
عش كل لحظة كأنها آخر لحضة في حياتك
عش بالايمان عش بالأمل
عش بالحب عش بالكفاح
وقدر قيمة الحياة
**************
كثيرا من حالات الفشل في الحياة كانت لأشخاص لم يدركو
كم كانوا قريبين من النجاح عندما أقدموا على الاستسلام

تاريخ فلسطين**2** Medal-12
الجنس الجنس : انثى
عدد الرسائل : 465
تاريخ الميلاد تاريخ الميلاد : 28/08/1991
 البلــد البلــد : الجزائر
العمر العمر : 32
تاريخ التسجيل تاريخ التسجيل : 20/12/2008
نقاط التميز نقاط التميز : 6558
السٌّمعَة السٌّمعَة : 35

تاريخ فلسطين**2** Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ فلسطين**2**   تاريخ فلسطين**2** I_icon_minitimeالخميس سبتمبر 10, 2009 11:56 am

كتاب رسول الله (صلى الله عليه وسلم) إلى هرقل:

من خصائص دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه أُرسل إلى الناس كافة، وقد مثلت الكتب التي بعث بها ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى الملوك والقادة في عصره، تجليا واضحا لهذه الخصيصة؛ فقد تخطى الجغرافيا بكل أنواعها، وكتب إلى كسرى وقيصر وملوك اليمن وعمان ومصر وغيرها، يدعوهم إلى الإسلام..

وقد أقبل دِحْيةُ بنُ خليفةَ من المدينة نحو الشام، يحمل كتاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى هرقل قيصر الروم، في وقت كان فيه الرومان في قمة النشوة لانتصارهم الكبير على الفرس، واستعادتهم الممتلكات الاستعماريةَ التي سلبها منهم عدوهم المجوسي، وعلى رأسها بيت المقدس، الذي نذر هرقل أن يسير إليه من حمص سيرا على قدميه، حيث أقام احتفالاتٍ صاخبةً بالنصر الكبير.

وشق الصحراءَ نفسَها الحارث بن عمير الأزْدِيّ، يحمل كتاب الدعوة من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى أمير بُصْرَى ؛ حليف الروم وخادمهم.

أما هرقل، فمع تأثره بالكتاب، فإنه كان يجيد أعمال السياسة، فرد على كتاب رسول الله ردًا ليّنا، في حين غَلبت الجلافة الآخرين، فقَتل أعرابيٌّ من غَسَّانَ رسولَ المسلمين إلى أمير بُصْرَى، قتله باسم هرقلَ.

وارتفعت دماء الحماقة إلى رأس أمير بُصْرَى، فبعث إلى هرقلَ يستأذنه في غَزْوِ المدينة المنوَّرة، إلا أن هرقلَ رغب في ألا يعكِّر كؤوس احتفاله بالانتصار على الفرس أيُّ شيء، وفضَّل أن يكون أمير بصرى من الخدم الحاضرين معه احتفالَ الروم في بيت المقدس باسترجاع الصليب الأكبر من الفرس.

استبشار المسلمين بانتصار الروم على الفرس:

كان الصراع الدموي بين الفرس والروم أهم معلم دُوَليٍّ يميز دنيا الناس إبان البعثة النبوية الشريفة، فقد نشأ بينهما صراعٌ مميتٌ وتنافسٌ مهلكٌ، كانت الضحايا فيه تُعَدُّ بمئات الآلاف من البشر لا بعشرات الآلاف، هذا غير المدن التي خُرِّبَتْ والقصور والقلاع والحصون التي هُدِّمَتْ..

وقد علت يد الفرس على الروم في بدايات بعثة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحققوا انتصارات متتالية عليهم: عند أَنْطَاكية سنة ستمائة وثلاث عشرة من الميلاد، وسيطروا على فِلَسْطِين، وبيت المقدس سنة ستمائة وست عشرة من الميلاد، وامتد جبروتهم حتى خضعت لهم الإسكندرية سنة ستمائة وسبع عشرة من الميلاد. وتجاوب مشركو مكة مع الأحداث، وفرحوا لانتصار الوثنية على أهل الكتاب، ورأوا في ذلك صورة مبكرةً للصراع بينهم وبين الإسلام، وأن النهاية في الحالين ستكون واحدة: انتصار الوثنية وارتفاع شأن الأصنام، وخمود صوتِ الرسل...!

وخرج هرقلُ القيصرُ الرومي الجديدُ ليكافح في سبيل إعادة المجد البيزنطب من جديد، فظل ينظِّم دولته ويقوي جيشه المنهار، ويكافح الفرس حتى ألحق بهم هزيمة ساحقة قرب نينوى سنة ثلاث وعشرين وستمائة، فقصم ظهورَهم، واسترد منهم أرض الدولة البيزنطية في أرْمينِيَّة والشام وفلسطين ومصر، واستعاد منهم بيت المقدس سنة ثلاثين وستمائة من الميلاد. وقد فرح المسلمون لهذا النصر الذي وافق انتصارهم على كفار قريش يوم بدر.

وكان ذلك تحقيقا لما نزل به القرآن، قبل أن يتحقق بسبع سنين، في قول الله ـ تعالى: (الم. غُلبت الروم. في أدنى الأرض وهم من بعد غلبهم سيغلبون. في بضع سنين لله الأمر من قبل ومن بعد ويومئذ يفرح المؤمنون. بنصر الله ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم).

غزوة مؤتة:

تقع مؤتة الآن داخل حدود المملكة الأردنية الهاشمية، مما يعني أن الغزوة التي دارت فيها بين المسلمين وبين الروم وحلفائهم من القبائل العربية، كانت على مقربة من بيت المقدس.

‏اتجهت جموع جيش المسلمين في غزوة مؤتة إلى الجزء الملاصق للجزيرة العربية من أرض الشام، أي إلى الطريق الممتد إلى فلسطين التي فيها بيت المقدس. وتعداد المسلمين المتجهزين للقتال يومئذ ثلاثة آلاف، يقودهم زيد بن حارثة، وخليفته إن قتل جعفر بن أبي طالب، فإن قُتل تلى على المسلمين عبد الله بن رواحة، فإن قُتل عبد الله اختار المسلمون قائدا منهم.

‏وكانت دماء زيد بن حارثة حِبِّ رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعفر بن أبي طالب ابن عمه، وعبد الله بن رواحة أحد شعرائه وأنصاره ـ كانت أولَ دماء طاهرة روت الأرض في الطريق إلى القدس، في مواجهة مع الروم غير متكافئة في العدد ولا العُدة، إذ حشدوا من مقاتليهمعشرات الآلاف من الجنود والمرتزقة العرب في مواجهة ثلاثة آلاف من المسلمين.

ثم أخذ الراية سيف الله خالد بن الوليد، الذي سيواصل فيما بعد المشاركة الإيجابية في سبيل بسط سلطان الإسلام على الشام والقدس.. ظهرت مهارة خالد في مؤتة في المناورة وحسن تحريك الجيش وتحويل الدفّة؛ فقد أحدث ضجيجًا وصخبًا وهو يحرك قطع جيشه، ويبادل بين مواضعها، فتوهم الروم أن إمدادات كبيرة قد جاءت أرض المعركة، فراحوا يعيدون توزيع جيشهم. وبينما هم مشغولون في ذلك رجع خالد بجيشه إلى المدينة..

ومع أن المسلمين في المدينة صاحوا في وجه خالد وجنوده: يا فُرّار .. فررتم من أعداء الله. إلا أن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ نفى عنهم التهمة، وطيب خاطرهم وقال: "ليسوا بالفرار ولكنهم الكرار بإذن الله" ـ أي أنهم عائدون إلى الجهاد من جديد.

وهي كلمة تُنْبِئ عن أنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيستأنف الجهاد في هذه النواحي عما قليل. و

غزوة تبوك:

في العام التاسع للهجرة سعى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى إعداد جيش يتجه به إلى الشام، وندب المسلمين للمشاركة فيه بالنفس والمال، فتطوع عدد كبير منهم، خاصة أنه أعلن أنه سيخرج بنفسه. وكان تعدادهم ثلاثين ألفا، أي عشرة أضعاف من حاربوا في مؤتة.

كان ذلك يعني للمسلمين سفرا بعيدا، في ظروف الحر الشديد، ووقت انتظار الثمار، وفي مواجهة عدو ذي بأس شديد.

وبعد وصولهم إلى تبوك عسكر المسلمون هناك عشرين يومًا، لم يخرج خلالها جيش الروم لمواجهتهم أو صدهم، ويبدو أنهم أرادوا استدراجهم إلى الداخل.. غير أن المسلمين لم يتوغلوا إلى الداخل، وتركوا الروم يحسبون حساباتهم الخاطئة. واستشعرت القبائل العربية المحالفة للروم أنها تقف في المواجهة بمفردها، فأسرع يوحنة بن رؤبة أمير أيلة، فوفد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وصالحه وأعطى الجزية للمسلمين، وكتب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كتاب أمان له ولقومه. وكذلك فعل أهل جرباء وأهل أذرح، وانتظر أكيدر دُومة الجندل حتى جاء به خالد بن الوليد أسيرا بين يدي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فحقن دمه وصالحه.

وأهم ما تبينه المسلمون في هذه الغزوة هو أن بلاد الشام ينبغي ألا تغيب عن أنظارهم، كما تبينوا أن نصارى الشام من العرب في حاجة إلى من يخلصهم من حكم الرومان، وأن المسلمين لو جاءوا يومًا يفتحون الشام فسيجدون ترحيبًا من أهلها، وهذا ما بدا واضحًا بصورة جلية عند الفتح العمري للقدس في غضون سنوات معدودة، وهو الفتح الذي بشر به النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في هذه الغزوة المباركة.

إنفاذُ بعثِ أسامةَ بنِ زيدٍ:

‏ رأى رسولُ اللهِ ـ صلى الله عليه وسلم ـ في زيد بنِ حارثةَ وابنِه أسامةَ إيمانا وفروسية وحبا لله ورسوله، يجعلهما جديرَيْنِ بالقيادة، ولو كان أسامةُ شابا صغيرا لم يجاوز سبع عشرة سنة، وفي جيشه مَنْ هو أسَنُّ منه.. وقد نال زيد الشهادة عند مواجهة الروم في مُؤْتَةَ، وها هو ابنه أسامة يواصل مسيرة والده، في غير جبن ولا تردد، ويستعد ليواجه الروم وحلفاءهم من جديد على أعتاب السنة الحادية عشرة للهجرة.

أراد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بتجهيز جيش أسامة أن يؤمّن المسلمين من أي عدوان يأتيهم من الشمال، وأن يُلْقِي الهيبة منه ومن المسلمين في قلوب القبائل العربية المتاخمة لحدود الدولة الرومانية.

لكن المرض أصاب الجسد النبوي الطاهر، وراح يشتد به، فتوقف الجيش المجاهد خارج المدينة انتظارا للإذن بالانطلاق، إلا أن مشيئة الله أرادت غير ذلك، فصَعِدَتْ روح النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بارئها في ربيع الأول من العام الهجري الحادي عشر، لكن بقيت وصيته لمَن بعده أن يُنْفِذ جيش أسامة.

وكان تنفيذ هذه الوصية أول ما شغل أبا بكر بعد توليه الخلافة، بالرغم من الأخطار الهائلة التي واجهها بسبب الردة.

خرج الخليفة أبو بكر يودع القائد الشاب أسامة بن زيد وجندَه، وزوَّده بوصاياه، وأمره بأن ينفّذ أوامر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قائلا له: "ابدأ ببلاد قضاعة، ثم ائت آبل، ولا تقصّر في شيء من أمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولا تعجلن…".

فسار الجيش متجهًا إلى المنطقة التي حددها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عشرين يومًا، يقطع الصحراء الملتهبة بحرارة الشمس في يونيو، حتى بلغوا مؤتة حيث استشهد زيد بن حارثة وأصحابه.. وهناك صلى أسامة، ثم دعا لوالده الشهيد ومن استشهد معه، ثم بث خيوله في صفوفٍ مُواجِهةٍ للأعداء، ومضى هو وجنده إلى الأمام حتى بلغوا الهدف الذي حدده لهم الرسول صلى الله عليه وسلم، وأكده لهم خليفتُه، فوطئت خيولهم البلقاء والداروم، فلما تمَّ له ما أراد لم يتجاوز الهدف المحدد، ولم يفتنه الغرور أو يستدرجه إلى ملاقاة جيش الروم، وإنما عاد بجيشه سالمًا مظفرًا إلى المدينة المنورة حيث تلقاه الخليفة بالتحية والإكبار.

وكانت هذه ثالث حملة بعد مؤتة وتبوك في الطريق إلى القدس الشريف، فعَرف المسلمون الطريق جيدًا، وعَرفوا مَنْ فيه من الأعداء ومدى قوتِهم.. وهكذا وصل الإسلام قريبًا من فلسطين دينًا حيويًا في زهرة حماسه الأول. وفي المقابل كان الإمبراطور البيزنطي هرقل قد تسبب في اغتراب كثير من رعاياه في فلسطين، وكان مكتئبًا يعاني أزمةً روحية، ومن ثم فقد خَشِيَ أن يكون الفتحُ الإسلامي علامةً على غضب الله عليه!!

جيش أبي بكر لفتح فلسطين:

لما أقبلت العرب على أبي بكر من كل حَدَبٍ وصَوْبٍ تريد الخروج للجهاد في الشام، جمعهم تحت قيادة ذوي الدين والكفاية، ووزعهم على أربعة جيوش، على كل واحد منها أميرٌ قوي أمينٌ، فأبو عبيدةَ أمينُ الأمةِ على جيش، وعمرو بن العاص القائدُ العبقري على جيش، وشُرَحْبِيلُ بن حَسَنةَ الأميرُ التَّقِي على جيش، ويزيدُ بنُ أبي سفيانَ القائدُ الصُّلْبُ على جيش...

وأراد أبو بكر بهذا التقسيم أن ينفرد كل واحد من هؤلاء الأمراء بفتح ناحية من نواحي الشام، فكان فتح فلسطين والقدس من نصيب عمرو بن العاص وجيشه..

وزود الخليفةُ عَمْرًا بوصاياه، قال له: "إذا سرت بجيشك فلا تسر في الطريق التي سار فيها يزيد وشرحبيل، بل اسلك طريق إيلياء (القدس)، حتى تنتهي إلى أرض فلسطين، وابعث عيونك يأتونك بأخبار أبي عبيدة، فإن كان ظافرا بعدوه فكن أنت لقتال مَن في فلسطين، وإن كان يريد عسكرا فأنفذ إليه جيشا في أثر جيش..".

ولأداء هذا المهمة الصعبة، خرج عمرو من المدينة ومعه ثلاثة آلاف جندي، فيهم كثير من المهاجرين والأنصار، وظل أبو بكر يُتْبِعُه بالأمداد حتى بلغوا سبعة آلاف وخَمْسَمائة جندي. كما أمَّره الخليفة على من يتطوع معه من قبائل بَلِيّ وعُذرة وسائر قُضاعةَ وما جاورها. وسلك عمرو بجيشه طريق الساحل، مارا على أيْلةَ (أو العقبة)، فالبحر الميت.

والحقيقة أن استراتيجية القتال في الشام فرضت على المسلمين أن يجتمعوا لعدوهم عند حاجتهم إلى الاجتماع، كما جرى في اليرموك وفِحل وفتح دمشق، وانفرد كل قائد بالمهمة الخاصة به حين استغنى عن قوات زائدة على ما معه.

معركة اليرموك:

رتبت الأقدار موعدَها، واختارت ساحتَها، وموقعَها، تلك المعركة الأم في صراع المسلمين مع الروم، وحقا لم تكن صراعا على مدينة عتيقة كدمشقَ أو بيت المقدس، إلا أنها شهدت حشودا عظيمة من الفريقين، والمنتصر اليوم سيكون الأقربَ للاستيلاء على مدن الشام ووديانها وحواضرها.

اجتمع الرومان ونزلوا الواقوصة على ضفاف نهر اليرموك، وعسكر المسلمون بمحاذاتهم في انتظار قواتِ خالد بن الوليد القادمة من العراق، وبوصولها بدأ خالد ينظم جيشه، ويوزع الأدوار على رجاله، ولم يستعجل الاصطدام بالعدو عند بدء رؤيتهم في ساحة القتال، بل راح يعدِّل في خطته لتتواءم مع ما رأى من قوات العدو، فوزع خيلَه فرقتين لتأخذَ الرومَ من ظهورها إن اشتد ضغطُها على المسلمين... وفي وسط هذا الزحام واللقاء المرتقب لم ينس المسلمون التوجُّهَ إلى الروم بدعوتهم إلى دين الله، وتركِ ما هم عليه من الضلال، لكن القلوب كانت في أغلفة من الغفلة والغرور.

وراح عكرمةُ بن أبي جهل والقَعْقَاعُ بن عمرو يشعلان فتيلَ الحرب، فاشتد القتال، وارتفع لهيب الصراع، ما بين تقدمٍ وتراجعٍ، حتى نجحت خيل خالد بن الوليد في تمزيق شمل الروم والدخول بين صفوفهم..

واستمرت الحرب حتى أعطت السيوف والجنود كل ما لديهم، وتحقق للمسلمين نصر مبين، وذلك في جمادى الآخرة من السنة الثالثة عشرة للهجرة النبوية.

والمعنى المباشر لهذا النصر، هو أن جزءا كبيرا من قوة الروم قد انهدم، مما يقرب أكثر من تحقيق البشارة، ودخول المسلمين بيتَ المقدس المبارك.

فتح فِلَسْطِين:

معركة " أَجْنادِين" من الجولات الحربية الكبرى للمسلمين في الشام، إذ آذنت بغروب شمس الروم عن البلاد، وإشراق شمس المسلمين فوق رُبَاهَا وفى مدنها وعلى شواطئها وبَوادِيهَا، وهي من معارك الفتح في فلسطين، الذي كان مهمة عمرو بن العاص وجيشه.

وقد كانت الذاكرة الإسلامية عند التحرك جهة فلسطين وقلبها القدس، تحمل الميراث القرآني العظيم عن هذه المنطقة، التي باركها الله، وجعلها مقصدا للأنبياء، وآخي في القداسة بينها وبين المسجد الحرام، وجعلها الموقع المختار الذي انتهت عنده رحلة الإسراء وابتدأت منه رحلة المعراج.. ولا شك أن نفس المسلم حين تُقْبل على الفتح بهذه الروح ستكون الهيبة ثيابا تزينها، ولن يكون دخول المدينة قتلا ولا نهبا، ولا إفسادا في أرض الله، كما فعلت أمم شتى قبل ذلك وبعده.

وقد جرت معارك الفتح في فِلَسْطِين صراعا بين رأسَيْن كبيريْن في عالم الدهاء، هما عمرو بن العاص والأمير الروماني الأَرْطِبون، وانتهت وقائعه بانتصار عمرو بن العاص وجنوده.

كما كانت هذه المعارك صراعا على بلاد امتلأت بالقداسة، وزاحم هواءَها عبيرُ النبوة التي عاشت هنا من قبل..

خاض عمرو بن العاص ضد الروم معركة أَجْنَادِين الشرسة، وفتح النصرُ فيها الطريق أمامه إلى بيت المقدس، فبدأ أولا بما حولها من المدن ليمنع عنها المددَ والمساعدة. وبعد حصار طويل انسحب الرومان من القدس، وسلَّم أهلُ المدينة، وطلبوا الصلحَ على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيحَها. وفي الجابيةِ التقى عمر بن الخطاب مع قادته في الشام، فتلقَّوْه بالاحترام والإجلال، ثم تسلم مفاتيح بيت المقدس من الأساقفة، وقام ومعه المسلمون بتنظيف الحرم الشريف، وأقام هناك مسجدًا.

وكلف أمير المؤمنين القائدَ معاويةَ بن أبي سفيان بفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ، ليكتمل فتح فلسطين حتى الشواطئ الغربية المالحة.

معركة أَجْنَادِين:

وصل عمرو بن العاص بجيشه إلى أجنادين، فوجد القائد الرومي أَرْطِبونَ مرابطا بقواته هناك قد قسَّم جندَه ونظم عساكره، ووضع جندا كثيفا لحماية القدس، وآخر لحماية الرملة، فقطع عمرو طرق المساعدة الرومانية عن الأرطبون، وأرسل قوة لمشاغلة حامية الروم في الرملة، وقوة أخرى لمشاغلة حاميتهم في القدس، وأقام المسلمون في أَجْنَادِين يأتيهم المددُ، ولا يأتي عدوهم.

لكن عَمْرًا لم يجد لخَصْمِه ثغرة، ولم يعرف له خطة، فبعث بالرسل بينه وبينهم لعلهم يكشفون من الروم عن شيء مفيد، أو يطَّلِعون على خططِهم وترتيباتهم للحرب.

لقد أدرك عمرو جيدا أن معرفة العدو شيء ضروري للانتصار عليه، لكن الرسل الذين بعث بهم إلى قائد الروم لم يسعفوه بشيء، فقرر أن يخوض المغامرة بنفسه، وذهب إلى أَرْطِبُون في عرينه متخفيا في صورة رسول من المسلمين، ودخل عليه وكلَّمه، وعرف مداخلَه ومخارجَه، وأوقع قائدَ الروم في حبائل دهائه الرهيبة، إذ حاول القائد أن يقتله لِمَا رأى من ذكائه، وشكَّ في أنه قد يكون عمرا نفسه، وأدرك القائد المسلم ما يدبر له فوعد أرطبون بأن يزوره مرة أخرى ومعه أمثاله من أبناء عمومته من العرب، فطمع قائد الروم في غنيمة أكبر..

لكن عودة عمرو لم تكن سارة للقائد الرومي، إذ أقبل بجيشه وقواته، مما كان إيذانا ببدء قتال حام في أَجْنَادِين، كان الناس وقودا سهلا له، ولكن دون أن تميل الكِفَّة إلى أي من الجانبين..

ويمر الوقت ويدُ كلِّ فريق بين أسنان الآخر، فكان المسلمون أكثرَ صبرا، كما قوَّت انتصارات إخوانهم في مدن سوريا من عزائمهم ومعنوياتهم...

وقلَّب أَرْطِبُونُ بصره في الصفوف فوجد رجاله قد سيطر عليهم إعياء شديد، واضطربت صفوفهم، وأن المسلمين يحصدونهم بسيوفهم حصدا، ففضل أن ينسحب بجيشه إلى موقع يستطيع فيه المقاومة أكثر، فانسحب بهزيمة ثقيلة إلى بيت المقدس الحصينة محتميا بها، وذلك في النصف الثاني من سنة خمس عشرة للهجرة.


عدل سابقا من قبل مزدلفة في الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:07 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
zina
ك.ش
ك.ش
zina


مهنتك مهنتك : تاريخ فلسطين**2** Studen10
الهوايات الهوايات : تاريخ فلسطين**2** Unknow10
رسالة sms رسالة sms : بسم الله الرحمان الرحيم :
عش كل لحظة كأنها آخر لحضة في حياتك
عش بالايمان عش بالأمل
عش بالحب عش بالكفاح
وقدر قيمة الحياة
**************
كثيرا من حالات الفشل في الحياة كانت لأشخاص لم يدركو
كم كانوا قريبين من النجاح عندما أقدموا على الاستسلام

تاريخ فلسطين**2** Medal-12
الجنس الجنس : انثى
عدد الرسائل : 465
تاريخ الميلاد تاريخ الميلاد : 28/08/1991
 البلــد البلــد : الجزائر
العمر العمر : 32
تاريخ التسجيل تاريخ التسجيل : 20/12/2008
نقاط التميز نقاط التميز : 6558
السٌّمعَة السٌّمعَة : 35

تاريخ فلسطين**2** Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ فلسطين**2**   تاريخ فلسطين**2** I_icon_minitimeالخميس سبتمبر 10, 2009 11:57 am

معاويةُ يفتح قَيْسَارِيَّةَ وعَسْقَلانَ:

طار كتابٌ من أمير المؤمنين عمر إلى الأمير الموهوب معاويةَ بن أبي سفيان بأن يفتح للمسلمين قَيْسَارِيَّةَ، فسار إليها بروحِه الوثَّابةِ، وحاصرها، فكانوا يزحفون إليه ويزحف إليهم مرات دون أن يفتحها أو يرجعَ عنها، وثبت المسلمون في مواضعهم، فإذا بالقدَر الإلهي يمهد لفتح المدينة من باب لطفٍ إلهي خفي، لقد جاء يهودي إلى المسلمين ليلا، وأرشدهم إلى طريقٍ يدخلون منه المدينة، على أن يؤمِّنوه وأهلَه، فدخل المسلمون قَيْسَارِيَّة ليلا وكبّروا فيها، فتزلزلت الأرض بالروم، وظنوا أن المسلمين قد جاءوهم من كل ناحية، ففروا لا يفكرون في شيء إلا النجاة بأنفسهم، فوقع قتال شديد انجلى عن نصر باهر للمسلمين، ثم كتب عمر إلى معاويةَ بفتح ما بقي من فِلَسْطِين بعد أن فتح بيت المقدس والرَّمْلة، فمال معاوية بجنده إلى عَسْقَلانَ، ففتحها صلحا.

البشارة النبوية بفتح بيت المقدس:

روى البخاري في صحيحه عن عَوْف بْن مَالِكٍ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ـ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ وَهُوَ فِي قُبَّةٍ مِنْ أَدَمٍ فَقَالَ: اعْدُدْ سِتًّا بَيْنَ يَدَيِ السَّاعَةِ: مَوْتِي ثُمَّ فَتْحُ بَيْتِ الْمَقْدِسِ ـ حتى أحصى ستة أشياء.

هكذا أتت البشارة النبوية بفتح بيت المقدس واضحة صريحة، وحددت بدقة أن الفتح لن يكون في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بل بعد لحاقه بالرفيق الأعلى..

لقد كانت الذاكرة النبوية وهو في تبوك، على مقربة من بيت المقدس، تستحضر وضع المدينة المباركة، والأَسْر الطويل الذي وقعت فيه، فلا زالت القوى الغريبة عنها تسيطر عليها..

جاءت البشارة في زمن كان الروم فيه يسيطرون بقوة على المدينة المباركة، حتى إن الناظر إلى حالها يتيقن تماما أنهم لن يخرجوا منها، وظن الروم أن المدينة التي استرجعوها من بين أنياب الفرس لن تخرج من أيديهم مرة أخرى أبدا..

لقد خرجت البشرى من رحم الواقع الصعب، لكنها إلهية المصدر، وليست اجتهادا من النبي الكريم ـ صلى الله عليه وسلم، ولأنها إلهية فإن كثرة المعوقات، وصعوبة الطريق لن تحول بينها وبين التحقق.. (وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدّلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا..).

فتح بيت المقدس:

عقب معركة أجنادين تمهَّد الطريق أمام المسلمين نحو القدس، وأسرعت خُطى التاريخ، واقترب اليوم الخالد، يوم الفتح الذي يُذَكِّر بفتح مكة، فالمسلمون يحاصرون بيت المقدس، بل قل إنهم يعانقون هذه المدينة ومسجدَها المباركَ، تلك التي لازمتْها القداسة حتى في اسمها.. يسترجعون من المدينة ذكريات أنبيائها وصالحيها، فهذا الخليل وابنه إسحاق، ويعقوب وبنوه، وهذا داود وابنه سليمان، وهذه مريم وابنها، وزكريا ويحيى، وكثير وكثير ممن ملأوا هذه الأرض بنور السجود وضياء التسبيح والركوع..

حرص عمرو بن العاص قبل أن يأتي بجنوده إلى القدس والرَّمْلة على أن يفتح ما حولهما من المدن، ليمنع عن الروم أي مدد، فحرر رَفَحَ وغَزَّةَ وسَبَسْطِيةَ ونابْلُس ولُدَّ وتُبنى وعَمَوَاسَ وبيتَ جَبْرِين ويافا ومَرْجَ عُيون.. فكان بذلك يحفظ قداسة بيت المقدس أن يسفك فيها دم، أو تتلطخ بقتال ينتهك حرمتها.

وبدا الروم لدى مقدم عمرو بجيشه محبوسين بين جدران المدينة التي صبغوها بمذهبهم في المسيح، وأرادوا أن يفرضوه على العرب والقبط في الشام ومصر وغيرهما..

ولم تكن بيت المقدس في ذلك الحين سوى مدينة رومانية في اسمها (إيلياء)، ورومانيةٍ في طراز أغلب مبانيها، يتجول في شوارعها جنود الإمبراطورية، وتتحرك في أنحائها وجوه من عناصر شتى، غير أن سمت أهلها من العرب لا تخطئه عين الناظرين.

كانت المدينة قد ضاقت بالاحتلال، وسمعت عن عدل الفاتحين الجدد الذين يقولون إنهم يهتدون بخُطى الأنبياء، ويضعون "إيلياء" موضع الإجلال والتقديس، ويشاركون أهل المدينة في عروبة أصولهم.

وبدأ عمرو فضرب الحصار حول المدينة أربعة أشهر، حتى ضاق صدر الروم من بأس المسلمين وصبرهم، بالرغم من الشتاء القارس والعوامل الجوية الصعبة، فانسحب أتباع قيصر والأرطبون من بيت المقدس، وودّعوها في حسرة قاتلة.

وطلب أهل المدينة الصلح، على أن يأتي أمير المؤمنين عمر بنفسه ليتسلم مفاتيح القدس، فاستجاب لهم المسلمون، وأقبل عمر، في حادث من أكبر الأحداث في تاريخ المدينة المباركة، وتسلم المدينة من بِطْرِيكها صفرنيوس.

حصار المسلمين بيت المقدس:

اعتاد من يسيطر على القدس منذ القِدَم أن يلفها بالأسوار، ويقيم حولها الحصون، حماية للمدينة الغالية من الغزاة والمغامرين. وقد عُثر في الأردن على خريطة ثمينة من القرن السادس الميلادي، تشرح وضع القدس في هذا الزمن، حيث بدت محاطة بسور فيه عدة أبراج ومجموعة أبواب، وفي الداخل تبدو المباني الفخمة، وأهمها الكنائس.

وحينما قَدِمَ عمرو بقواته سنة 637م وجد المدينة حصينة منيعة، قد احتمى بها الرومان، وليس من اليسير اقتحامها عليهم، فضرب الحصار حولها، وراح يبحث عن فرصة أو فرجة للدخول، ولكن مرت ثلاثة أيام دون أن يجد شيئا من ذلك، فاستجمع قوته وتقدم نحو الأسوار، فأمطرهم الروم بالنبال، والمسلمون يصدونها بتروسهم.

وقدمت إلى عمرو معونات من القادة الآخرين بالشام، فلم يمر يوم إلا وقع فيه قتال، حتى مرت أربعة أشهر، لم يزل المسلمون فيها على القتال والحصار وأهلُ بيت المقدس لا يظهرون من قلوبهم همًا ولا جزعًا .. ليس غير المنجنيقات الضخمة ترمي بالحجارة فوق القوى المحاصِرة من المسلمين، ويحتمون داخل أسوارهم معهم السيوف والدروع ..

إلا أن طول الفترة، وصبر المسلمين العجيبَ بالرغم من البرد الشديد ـ كانت كفيلة بأن تحبط الروح المعنوية للروم، فتراجع أرطبونُ بقواته إلى مصر. ودعا أهلُ القدس إلى طلب المصالحة، فسار إليهم عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ وصالحهم.

الفاروق عمر يسير إلى القدس:

جاء إلى عمر بن الخطاب في المدينة كتاب من أمير الفتوح في فلسطين عمرو بن العاص، يبشره بنعمة الله، وانهزام بقايا الروم في الشام، وأن أهل إيلياء (القدس) اشترطوا أن يسلّموا المدينة إلى أمير المؤمنين نفسه، فراح عمر يعد للسفر عدته، من الرفيق والزاد والراحلة، وسافر السفر الطويل، يقطع المراحل والأميال.. وعلى أبواب الشام لقي قواده في الجابية، واطمأن على حال المسلمين في بلاد الشام.

وبينما عمر في الجابية إذا بجماعة من الروم بأيديهم سيوف مسلولة، فسار إليهم المسلمون بالسلاح، فقال عمر: إن هؤلاء قوم يستأمنون، فساروا نحوهم، فإذا هم جند من بيت المقدس يطلبون الأمان والصلح من أمير المؤمنين حين سمعوا بقدومه، فأجابهم ـ رضي الله عنه ـ إلى ما سألوا، ثم واصل مسيره في جماعة من الصحابة ووجوه المسلمين نحو بيت المقدس.

وجاء وقت الصلاة، فتوجه أمير المؤمنين وصحبه إلى القبلة، وهم يقفون على قمة جبل يشرف على القدس، وعلا صوت عمر بن الخطاب بالتكبير، ومنذ ذلك اليوم سمى الجبل بجبل المكبِّر.

حال عمر عند سيره إلى بيت المقدس:

كان في ذاكرة عمر، وهو مرتحل من المدينة إلى بيت المقدس، أنه مسافر من مدينة النبي إلى مدينة الأنبياء، وهو حال يستوجب التواضع والهيبة، فظهرت على أمير المؤمنين في هذه الرحلة علامات عبقرية الأمير، الذي يزداد بتواضعه رفعة وسموّا.

كان هو وخادمه يتناوبان ركوب دابة واحدة في طريقهما التاريخي من المدينة إلى بيت المقدس، حتى إذا أتعب السير أحدهما ترجَّل له صاحبه عن بعيره ليركبه، وعلى مشارف القدس كان رفيق عمر هو صاحب الدَّوْر في امتطاء البعير، فأبى أمير المؤمنين إلا أن يركب صاحب الدور، وإلى جانبه سار الخليفة الفاتح على قدميه..

وقدم عمر الجابية على طريق إيلياء على جمل أورق، وتظهر رأس الأمير للشمس ليس عليه قلنصوة ولا عمامة، تهتز رجلاه بين شعبتي الرحل بلا ركاب، معه كساء صوف يتخذه سرجا إذا ركب وفراشا إذا نزل، ومعه شملة محشوةٌ ليفا يتخذها حقيبة إذا ركب ووسادة إذا نزل، وعليه مرقعة من الصوف فيها بضع عشرة رقعة بعضها من جلد.

وعندما جاء ميعاد زيارة بيت المقدس وهمَّ الخليفة بالركوب بهيئته الزاهدة قال المسلمون: يا أمير المؤمنين، لو ركبت غير بعيرك جوادًا، ولبست ثيابًا لكان ذلك أعظم لهيبتك في قلوب القوم، فقال: "نحن قوم أعزنا الله بالإسلام فلا نطلب بغير الله بديلاً". لكنهم أقبلوا يسألونه ويطوفون به إلى أن أجابهم إلى ما يريدون، ونزع مرقعته، ولبس ثيابًا بيضاء وطرح على كتفه منديلاً من الكتان ليس جديدًا ولا بالخَلِق، دفعه إليه أبو عبيدة وقدّم له بِرْذَوْنًا أشهب (وهو نوع من الحمير الكبيرة) من براذين الروم، فلما صار عمر فوقه جعل البرذون يَحْجِل، فنزل عنه مسرعًا، ثم صاح: أقيلوني أقال الله عثرتكم يوم القيامة، لقد كاد أميركم يهلك مما داخله من الكبر، وإني سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول: "لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال ذرة من الكبر".. فأُتى بجمله فركبه.

وحين قدم عمر الشام عرضت له مخاضة ماء، فنزل عن بعيره ونزع موقيه (وهو ما يلبس فوق الخفين)، فأمسكهما بيده، وخاض الماء ومعه البعير، فقال له أبو عبيدة: قد صنعت اليوم صنيعا عظيمًا عند أهل الأرض، فضرب عمر صدره برفق، وقال: "أولو غيرك يقولها يا أبا عبيدة! إنكم كنتم أذل الناس وأحقر الناس وأقل الناس، فأعزَّكم الله بالإسلام، فمهما تطلبوا العزة بغيره يذلكم الله".

عمر يتسلم مفاتيح بيت المقدس:

قبل أن يغادر عمر الجابيةَ في لقائه مع قواده بالشام أتاه وفد من أهل بيت المقدس يلتمسون عنده الصلح، فبذله لهم، وكتب لهم بذلك كتابا، فرجعوا وقد علموا أن هذا الكتاب وهذا الصلح نصر تحقق لهم، فقد جاءهم أمير عادل وقوم منصفون، وذهب عنهم بطش الرومان وظلمُهم واضطهادُهم.

ومضى أمير المؤمنين إلى بيت المقدس، والتواضعُ لله وحدَه يكسو عمر وأصحابَه هيبةً ووقارًا.

إنها بشارة من بشارات الصادق المصدوق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ووعد من موعودات الله لخلقه المؤمنين يتحقق أمام عيون الركب المبارك، وشريط الذكريات لا زال يعيد نفسه يوم كان النبي يلقي ببشرى فتح بيت المقدس في تبوك..

ولما أشرف بطريرك بيت المقدس من السور، ورأى جمع المسلمين يتقدمهم أمير المؤمنين، صاح بأعلى صوته "هذا والله الذي نجد صفته ونعته في كتبنا، ومن يكون فتح بلادنا على يديه بلا محالة". وكان ذلك بقية صادقة مما في كتب أهل الكتاب عن الصالحين من أسلافهم..

ثم قال البطريرك لأهل بيت المقدس: "يا ويحكم انزلوا إليه واعقدوا معه الأمان والذمة"، فنزلوا مسرعين، وكان الحصار الشديد قد أضناهم وشق عليهم، ففتحوا الباب وخرجوا إلى عمر يسألونه العهد والميثاق والذمة ويقرون له بالجزية، فخر عمر ساجدًا لله على بعيره..

وكان ذلك شاهدًا قويًّا على أن أهالي القدس وجدوا في الدولة الإسلامية الفتية ينبوع أمن وأمان لهم ولمدينتهم، يصون لهم خصوصياتهم، ويمنحهم حرية العقيدة بلا إكراه ولا مضايقة، كما كان دليلاً واضحًا على أن انسحاب الروم من بيت المقدس كان أمرًا حتميًّا تفرضه الرغبة الشعبية في هذه المدينة ضد المستعمرين من الروم..

وكان أهم مطلب ركز عليه الوفد الشعبي لبيت المقدس الذي لقي عمر في الجابية، وطلب منه الصلح ـ هو ألا يساكنهم في المدينة أحد من اليهود. وقد أصر البطريق صفرنيوس حين عرض تسليم المدينة المقدسة للخليفة عمر بن الخطاب شخصيًا على نفس المطلب الشعبي، فوافق أمير المؤمنين على ذلك، وسجله في وثيقة محددة البنود، أضاف فيها شروطًا تنص على احترام مقدسات هذه المدينة، وما يكفل لها السلامة أيضا من بقايا الروم وعملائهم.

ودخل الفاروق المسجد الأقصى من الباب الذي دخله منه رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء، ونظف بنفسه الصخرة المباركة، وتسلم مفاتيح المدينة الطاهرة في لحظةٍ تاريخيةٍ من أعز لحظات الزمن. وقضى الخليفة في القدس خمسة أيام ثم رجع إلى المدينة.

لقد كان فتحًا لم تشهد المدينة مثله في تاريخها الطويل، والمأساوي في غالب الأحوال، فبعد أن استسلم أهل المدينة لم يَحْدُثْ قتل أو تدمير للممتلكات، أو إحراق للرموز الدينية المنافسة، وأيضا لم يكن هناك طرد للسكان، أو نزع للملكية، أو محاولة لإجبار السكان على اعتناق الإسلام ..

وعاشت القدس منذ هذه اللحظة في رحاب الإسلام: بدءا من خلافة الراشدين، فالدولة الأموية، فالحكم العباسي، وما تفرع عنه من الطولونيين والإخشيديين، ثم جاء الحكم الفاطمي، ثم احتلها الصليبيون في ذيل القرن الخامس الهجري، حتى استردتها جيوش صلاح الدين بعد اثنين وتسعين عاما من الاحتلال.

الوثيقة العمرية لأهل بيت المقدس:

"بسم الله الرحمن الرحيم:

ـ هذا ما أعطى عبد الله عمر بن الخطاب أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان:

ـ أعطاهم أمانا لأنفسهم وأموالهم، ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها.

ـ أنه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينتقص منها ولا من حيِّزها ولا من صليبهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يُكْرَهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم.

ـ ولا يَسْكن بإيلياء معهم من اليهود.

ـ وعلى أهل إيلياء أن يعطوا الجزية كما تعطي أهل المدائن (أي المدن الأخرى من بلاد الشام).

ـ وعليهم أن يُخْرجوا منها الروم واللصوت (أي اللصوص).

ـ فمن خرج منهم فإنه آمن على نفسه وماله حتى يبلغوا مأمنهم، ومن أقام منهم فهو آمن، وعليه مثل ما على أهل إيلياء من الجزية.

ـ ومن أحب من أهل إيلياء أن يسير بنفسه وماله مع الروم ويخلي بِيَعَهم وصُلُبهم فإنهم آمنون على أنفسهم، وعلى بيعهم وصلبهم حتى يبلغوا مأمنهم.

ـ ومن كان بها من أهل الأرض قبل مقتل فلان، فمن شاء منهم قعدوا عليه مثلُ ما على أهل إيلياء من الجزية.

ـ ومن شاء سار مع الروم، ومن شاء رجع إلى أهله، فإنه لا يؤخذ منهم شيء حتى يُحْصَد حصادهم.

ـ وعلى ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخلفاء وذمة المؤمنين إذا أَعْطَوا الذي عليهم من الجزية.

ـ وشهد على ذلك خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.

ـ وكُتِب وحُضر سنة خمس عشرة ..

(وفي تاريخ الفتح خلاف، وإن كان الراجح هو أنه في سنة ست عشرة).

أيام عمر في بيت المقدس:

جاء دخول أمير المؤمنين القدس يوم الإثنين ملبيًا، وأقام بها حتى يوم الجمعة، فاستقبله زعماء المدينة وعلى رأسهم البَطريرك صفرنيوس الذي تولى شرح تاريخ المشاهد الدينية بالمدينة للخليفة عمر الذي طلب مشاهدة الأماكن المقدسة .. كان ذلك وسط مشاهد الاندهاش من سكان المدينة، وفي حضور قادة الجند المسلمين ووجوه الناس...

كان عمر حريصا في تلك الزيارة على مشاهدة معالم المدينة التي كان يحمل لها صورة أخذها عن الرسول الكريم الذي وصف المدينة للناس عقب معجزة الإسراء.. وتكرر وقوف الركب في عدة أماكن التبس على البطريق نفسه أنها المسجد الأقصى، خاصة أن موقع المسجد الأقصى والصخرة المقدسة قد تعرض للعبث والإهمال أثناء الاحتلال الروماني للقدس، وغدا بقعة تغطيها القمامة، انتقاما من اليهود الذين أهانوا كنيسة القيامة عند احتلال الفرس للقدس..

وحين اقترب الركب من هذا المكان بدأ الخليفة فحص معالمه، وتأكد أنه المكان المبارك .. عندها راح الخليفة العظيم في تواضع يجمع القمامة، ويذهب ليلقيها في وادي قدرون الواقع في شرق المكان، فاقتدى به المسلمون، حتى طَهُر المكان وتطهر واتضحت معالمه، كما ظهرت الصخرة المباركة.

وحين بدا محراب داود صلى عمر ـ رضي الله عنه ـ بالمسلمين صلاة الصبح، فقرأ في الركعة الأولى سورة [ص] وسجد فيها والمسلمون معه، كما سجد داود من قبل، وفي الركعة الثانية قرأ سورة الإسراء..

وبنى عمر المسجد العمري الذي كان يؤمه المسلمون من أهل المدينة المقدسة، والقادمين إليها للزيارة عبر الزمان، حتى جدده الأمويون في عهد عبد الملك بن مروان..

وكان عمر قد رفض الصلاة في موضع بكنيسة القيامة، حين عرضها عليه البطريق صفرنيوس، صيانة لخصوصيات أصحاب الكنيسة، حتى لا يبني المسلمون مكانها مسجدًا، مدعين أنه مكان صلى فيه أمير المؤمنين ..

بيت المقدس من الفتح العمري إلى نهاية عهد الخلفاء الراشدين:

قبل أن ينصرف عمر بن الخطاب عن الشام، بعد أن تسلم مفاتيح بيت المقدس ـ راح ينظم البلاد إداريا، ويوزع السلطات بين أمراء المسلمين، فجعل الإمارة العامة في الشام في يد أبي عبيدة بن الجراح، ووقعت القدس ضمن إمارة يزيد بن أبي سفيان، الذي أمره الخليفة بالرجوع في أموره إلى قائده العام أبي عبيدة..

ولكن ما لبث طاعون عمواس أن اجتاح فلسطين وما جاورها عام السابع عشر من الهجرة، حيث مات عدد كبير من عامة المسلمين ووجهائهم وقادتهم، كأبي عبيدة ومعاذ بن جبل ويزيد بن أبي سفيان..

وبوفاة يزيد نقل عمر ما تحت يديه من السلطة إلى أخيه معاوية، وصارت القدس بذلك تحت سلطة أمير جديد من بني أمية..

وجاء أمير المؤمنين الثالث عثمان بن عفان من البيت الأموي أيضا، مؤكدا أن الإسلام يصطفي الرجال على اختلاف مشاربهم ومواهبهم، فأقرّ عثمانُ معاويةَ على الشام، اقتداء بعمر الذي أدرك موهبة الفتى الهمام مبكرا.

وإذا كان عثمان قد عُرف بالكرم والجود، حتى اشترى للمسلمين بالمدينة المنورة بئر رُومة من طيب ماله، وبثمن كبير ـ فإن القدس وأهلها أيضا قد نالتهم نفحة من جود عثمان، حيث وقف على ضعفاء أهل المدينة المقدسة عين ماء تسمى "عين سلوان"، وهي عين غزيرة تسقي الكثير من الجنان، وقيل إن عثمان وقف الحدائق التي تسقيها هذه العين على نفع المسلمين أيضا.

وبعد عثمان ـ رضي الله عنه ـ بقيت السلطة على بيت المقدس، وعلى الشام كله، في يد معاوية بن أبي سفيان. وحتى حين تولّى علي بن أبي طالب إمارة المؤمنين، ودخل في نزاع شديد مع والي الشام معاوية، فإن أمير المؤمنين لم يستطع السيطرة على بيت المقدس، وظلت في يد معاوية إلى أن قامت الدولة الأموية، وبويع معاوية بالخلافة في القدس عام أربعين من الهجرة.

بنو أمية والقدس:

تنافس هاشم بن عبد مناف وأخوه عبد شمس جد بني أمية في الجاهلية على الشرف والسيادة، فتفوق هاشم، وحاز قَصْبَ السَّبْق، وأصبح أحق بالرياسة على قريش.. وفي نفس الوقت تفرغ أخوه للتجارة حتى برع فيها، وتجول بتجارته في كثير من البلاد، وورث أبناؤه عنه ذلك..

وفي رحلة له إلى بلاد الشام توفي هاشم، ودُفن في غزة على مقربة من بيت المقدس، وأدرك الأجل أخاه عبد شمس أيضا، وهو صاحب معرفة جيدة بمدن الشام وقراه، فظلت المنافسة بعدهما، على كل أنواع الرياسة والسيادة، شديدة بين البيتين الهاشمي والأموي..

فلما بعث الله نبيه محمدا ـ صلى الله عليه وسلم ـ من بني هاشم، آمن به أناس من الفريقين، وكفر به أناس من الطرفين كذلك.. فلما انتصر الإسلام جمع الفريقين تحت ردائه، وعد العصبية للآباء والأعراق بقية من ميراث الجاهلية البغيض..

واستعمل المسلمون مواهبهم في العمل لدينهم، لا فرق في ذلك بين هاشمي وأُموي، حتى خضعت لهم أعظم بلاد الدنيا المعمورة حينئذ، ومنها مدينة بيت المقدس، التي استُشهد في الطريق إلى فتحها الكثير من عظماء الرجال من الهاشميين والأمويين وغيرهم..

ولم يمر وقت طويل حتى وقع الخلاف بين المسلمين بعد استشهاد عثمان بن عفان ـ رضي الله عنه ـ وقد كان قتل الأمير هو الفتنة التي تفرّق المسلمون لأجلها، إذ أصر فريق يقوده معاوية بن أبي سفيان على سرعة الثأر من المجرمين، في حين رأى علي بن أبي طالب أن ذلك ليس مأمون العواقب إلا حين تستقر أمور الدولة في يديه..

ولم ينته هذا الخلاف إلا حين قُتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب شهيدا بيد أحد الخوارج، وتنازل الحسن بن علي عن الخلافة حقنا لدماء المسلمين، فآلت الخلافة إلى معاوية بن أبي سفيان، لتبدأ فترة جديدة يعْرفها المؤرخون بـ "الدولة الأموية"..

واتخذ الأمويون كرسي ملكهم في بلاد الشام، حيث يجتمع أنصارهم، وبالتالي كانت القدس قريبة من عيونهم، فترك العديد من خلفاء بني أمية في المدينة المقدسة علامات خالدة وأعمالا كبيرة، لا زال العديد منها باقيا ـ بصورة من الصور ـ يشهد لهم، كما فعل عبد الملك بن مروان وابنه الوليد ، ومثلما صنع سليمان بن عبد الملك، وعمر بن عبد العزيز..

وقد بويع في القدس بإمارة المؤمنين للعديد من خلفاء بني أمية، مثل معاوية بن أبي سفيان والوليد وسليمان ابني عبد الملك.

وحفظ التاريخ لنا وصفا جميلا للمدينة المقدسة أثناء الحكم الأموي.


عدل سابقا من قبل مزدلفة في الجمعة سبتمبر 11, 2009 10:10 am عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
zina
ك.ش
ك.ش
zina


مهنتك مهنتك : تاريخ فلسطين**2** Studen10
الهوايات الهوايات : تاريخ فلسطين**2** Unknow10
رسالة sms رسالة sms : بسم الله الرحمان الرحيم :
عش كل لحظة كأنها آخر لحضة في حياتك
عش بالايمان عش بالأمل
عش بالحب عش بالكفاح
وقدر قيمة الحياة
**************
كثيرا من حالات الفشل في الحياة كانت لأشخاص لم يدركو
كم كانوا قريبين من النجاح عندما أقدموا على الاستسلام

تاريخ فلسطين**2** Medal-12
الجنس الجنس : انثى
عدد الرسائل : 465
تاريخ الميلاد تاريخ الميلاد : 28/08/1991
 البلــد البلــد : الجزائر
العمر العمر : 32
تاريخ التسجيل تاريخ التسجيل : 20/12/2008
نقاط التميز نقاط التميز : 6558
السٌّمعَة السٌّمعَة : 35

تاريخ فلسطين**2** Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ فلسطين**2**   تاريخ فلسطين**2** I_icon_minitimeالخميس سبتمبر 10, 2009 11:58 am

وصف القدس في زمن بني أمية:

معاوية بن أبي سفيان من الشخصيات الكبيرة التي شهدت انتقال القدس إلى السيادة الإسلامية، فكان من أفراد الركب المسلم الذي التف حول أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وهو يتسلم مفاتيح بيت المقدس من بطريرك المدينة صفرنيوس..

ولم يكن معاوية حاضرا عاديا لهذا المشهد الكبير، بل كان أحد الشهود على وثيقة العهد الذي كتبه عمر لأهل بيت المقدس..

وحين صارت الخلافة إلى معاوية سنة إحدى وأربعين للهجرة، كانت القدس تعرفه ويعرفها، إذ مكث زمنا طويلا أميرا عليها وعلى الشام كله.

وقد وصف المؤرخون القدس تحت ظلال الأمويين فقالوا: "كان للقدس يومئذ سور، وكان على ذلك السور أربعة وثمانون برجًا، وله ستة أبواب، ثلاثة منها فقط يدخل الناس منها ويخرجون: واحد غربي المدينة، والثاني شرقيها، والثالث في الشمال. وكان يؤم المدينة، في اليوم الخامس عشر من شهر أيلول (سبتمبر) من كل سنة، جماهير غفيرة من مختلف الأجناس والأديان بقصد التجارة، ويقضي هؤلاء فيها بضعة أيام. وكان فيها مسجد مربع الأضلاع، بُني من حجارة وأعمدة ضخمة نقلت من الأطلال المجاورة. وهو يتسع لثلاثة آلاف من المصلين. والمعتقد أن هذا هو المسجد الذي بناه عمر بن الخطاب. وكان جبل الزيتون مغطى بأشجار العنب والزيتون. وكان سكان بيت المقدس يومئذ يأتون بالأخشاب التي يحتاجون إليها من أجل البناء والوقود، تنقل على الجمال من غابة كثيفة واقعة على بعد ثلاثة أميال من الخليل إلى الشمال".

القدس في عهد عبد الملك والوليد:

يُعد عبد الملك بن مروان المؤسس الحقيقي للدولة الأموية، فقد أنقذها من الانهيار، وانتصر على منافسه القوي عبد الله بن الزبير، حتى خضعت له الحجاز والعراق، وانفرد بالحكم في العالم الإسلامي.

وقد جاء من بعده ابنه الوليد، فبلغت الدولة في عهده شأنا كبيرا، وكثرت الفتوحات حتى وصل المسلمون إلى أوروبا من جنوبها الغربي، وفتحوا الأندلس، كما توغلوا في آسيا إلى الشرق والجنوب، وفتحوا السند والهند..

ولعبد الملك والوليد في القدس أعمال خالدة، ما زال بعضها قائما إلى اليوم، فبناء المسجد الأقصى ومسجد قبة الصخرة هما من أعمال عبد الملك والوليد وقد رصد عبد الملك لبناء قبة الصخرة وحدها خراج مصر سبع سنين، كما عبّد طريق القدس إلى الشام، وطريق القدس إلى الرملة.

وأما الوليد، فقد بويع بالخلافة ـ فيما يقال ـ على سطح الصخرة المقدسة، وواصل عمل أبيه في بناء المسجد الأقصى حتى أتمه، ورتب له الخدم والرعاة الذين يصونونه.

سليمان بن عبد الملك وبيت المقدس:

سليمان هو ثاني أبناء عبد الملك بن مروان الأربعة (الوليد وسليمان ويزيد وهشام) الذين تولوا الخلافة بعد أبيهم، وكان آخرُ مناصبه قبل مبايعته بالخلافة العامة (سنة ست وتسعين) هي الولاية على فلسطين..

وقد أعطى هذا المنصب لسليمان معرفة جيدة بفلسطين ومدنها، وعلى رأسها القدس والرملة، وكان محببا إليه الجلوس تحت قبة السلسلة بأرض الحرم القدسي الشريف.

وترجم سليمان حبه للقدس عقب توليه الخلافة بصورة أبهى من ذلك، فبويع على سطح الصخرة تحت القبة التي بناها أبوه، في مشهد مبهر، اجتمع فيه الناس حول الخليفة الجديد وإلى جانبه المال وكتّاب الدواوين.

وكاد سليمان أن يتخذ قرارا، هو الأول من نوعه في تاريخ المسلمين، بنقل العاصمة إلى بيت المقدس أو الرملة، وسيطرت على تفكيره حينئذ صورة نبي الله سليمان ـ عليه السلام ـ وهو يحكم مملكته القوية من بيت المقدس.. ولكن هذا الأمر لم يتحقق، ربما للموت السريع الذي أدرك سليمان بن عبد الملك سنة ثمان وتسعين وهو في مرج دابق شمالي الشام.

العباسيون والقدس:

مع العباسيين بدأت العاصمة تنتقل شرقًا إلى العراق، حتى بنى المنصور بغداد هناك، فاختطفت الأضواء من كل مدن الدنيا، وبهذا تراجعت مكانةُ الشام ومدنِه عما كانت عليه في عصر الأمويين، وبرزت أسماء الكوفة وبغداد والبصرة ، بدلاً من دمشق وبيت المقدس والرملة.

وعلى الرغم من ذلك فقد اهتم العباسيون منذ بداية دولتهم (سنة مائة واثنتين وثلاثين للهجرة) بإدخال الشام وفلسطين تحت سلطانهم، لما لهذه المنطقة من أهمية بالغة، فدخلها صالح بن عليّ عمُّ الخليفة المنصور في نفس السنة، في خمسين ألف مقاتل، وضمها إلى التاج العباسي المنتصر.

وكان من نصيب الشام في بداية الدولة العباسية أن تقع تحت إمارة رجل من البيت الحاكم، تميز بالغلظة والشدة، وهو عبد الله بن عليّ الذي تَتَبَّع الأمويين في كل مكان من فلسطين والشام، وقتل الكثيرين منهم، وتسبب في ثورتهم ضد الخلافة الجديدة في دمشق وقِنَّسْرين؛ حيث وُوجِهُوا بشدة بالغة.

وعقب تولي المنصور للخلافة سنة مائة وست وثلاثين، ثار عمُّه عبدُ الله بنُ عليّ ضده في الشام، وسار عبد الله على نهجه السابق في الغلظة والشدة، واستقل بالشام عن الدولة، مدعيًا أنه أحق بالخلافة من المنصور ابن أخيه، وحين لم يستجب لنداءات المنصور السلمية، بعثت إليه الخلافة جيشًا كبيرًا انتزع منه الشام، فصارت بيت المقدس تحت تاج الخلافة العباسية المستقرة.

ومنذ استقرت الأمور للبيت العباسي تعود الخلفاء تفقد مدن الشام، وزيارة بيت المقدس، كما فعل المنصور حين خضعت له الشام. وانصب اهتمامهم في الغالب على المسجد الأقصى، فرَعَوْه واهتموا به، وتابعوا ترميمه وبناءه، كما فعل المنصور والمهديُّ والمأمون.

ومن القضايا العباسية الأخرى ذات الصلة ببيت المقدس، علاقة الخلافة بالمسيحيين من أهل القدس، وتأثر وضع المدينة بالتقلبات السياسية في عموم الدولة حينما ضعفت حتى خضعت القدس للطولونيين، ومن بعدهم للإخشيديين، ثم الفاطميين.

علاقة العباسيين بأهل الذمة في القدس:

في الصراع الأموي العباسي وقف أهل الذمة في بيت المقدس على الحياد، فهو صراع "لا ناقة لهم فيه ولا جمل"، فبقيت أمورُهم مستقرة، يزاولون حياتهم وعقيدتهم بحرية، على الصورة التي تعهد لهم بها المسلمون منذ الفتح العُمَرِيِّ للقدس.

فلما تولى المهدي الخلافة سنة مائة وثمان وخمسين للهجرة، اعتنى بمواجهة البِدعة والانحراف العقائدي في صفوف المسلمين، ونفى إلياس الثالث بطريرك بيت المقدس إلى بلاد فارس؛ لعصبية دينية ظاهرة من البطريرك نحو دينه، كما أسكن "المهدي" المسيحيين من أهل القدس في حي واحد بالمدينة.

وفي عهد الرشيد بلغت الدولة ذروةَ مجدِها، وصب هذا في اتجاه تحسين معاملة الدولة لأهل الذمة بصورة كبيرة في بيت المقدس وعموم الدولة.

وأكثر من ذلك سمح الرشيد للإمبراطور شارلمان بترميم كنائس المدينة، وتعهد الخليفة بحماية الحجيج من النصارى الذين يَفِدُونَ إلى بيت المقدس لزيارة أماكنِهم المقدسة.

وتبادلت وفودُ الرشيد ـ الذي كان يحكم أكبر ممالك الدنيا في هذا الزمان ـ ووفودُ شارلمان ـ الذي كان يحكم جزءًا كبيرًا من غرب أوروبا وجنوبها ـ تبادلت هذه الوفود الزيارات في رحلات طويلة ومتتابعة، وفي إحدى هذه الزيارات إلى بغداد منح أميرُ المؤمنينَ هارون الرشيدُ الوفدَ المسيحيَّ مفاتيحَ كنيسة القيامة ـ أكبر أثر نصراني في القدس ـ ليسلموها إلى سيدهم شارلمان.

الطولونيون والسيطرة على القدس:

بعد انقضاء عصر الخلفاء العباسيين العظام، بدأت سيطرة خلفائهم على الدولة تضعف، وكان ذلك بعد انقضاء قرن واحد من عمر الدولة، أي في سنة مائتين واثنتين وثلاثين، ومن هنا كثُرت انشقاقاتُ القادة واستقلالُهم عن الدولة، وأصبح ذلك غير قاصر على الأطراف، وإنما امتد ليصل إلى القلب، حتى صار مقام الخليفة يشبه المنصب الشرفي في كثير من الأحيان.

ومن القادة الذين اجترءوا على الاستقلال ببعض أجزاء الدولة أحمد بن طولون، الذي كان أبوه رجلاً تركستانيًا اصطفاه المأمون في الخدمة، حتى صار قائدًا للحرس الخلافي. وورث أحمد عن أبيه القرب من العباسيين، واستغل فرصةَ ضعف الدولة، فاستقل بمصر، وسيطر معها على الشام، وأقام دولة لأسرته، يتوارثون فيها المُلك عن بعضهم بعضا.

وقد سيطر ابن طولون على القدس عام مائتين وخمسة وستين من الهجرة، ووطد سلطانه في الشام، بعد أن وطده في مصر.

وفي عهد ابن طولون عانى نصارى بيت المقدس من بعض المتاعب، فقد مُنعوا من لبس الدروع إلا بشروط، وحُظر عليهم ركوبُ الخيل.

كما وقع خلاف حاد بين بعض القبائل العربية المقيمة في فلسطين، فاقتتل بنو لخم وبنو جذام في عهد ابن طولون قتالاً شديدًا.

لقد كان وضع القدس في فترة الحكم الطولوني خاملاً بوجه عام، حتى خرجت من أيديهم بعد حكم دامَ سبعةً وعشرين عاما فقط، وبعدها بقليل دخلت المدينة تحت سلطة الإخشيديين.

القدس تحت سلطة الإخشيديين:

بعد ضعف أمر الطولونيين، عيَّنَ الخليفة العباسيُّ "القاهرُ بالله" فارسًا وقائدًا يدعى محمد بن طغج واليًا على مصر والشام سنة ثلثمائة وسبع وعشرين للهجرة، وتلقب بـ "الإخشيد"، لكنه استقل بالمنطقة تحت سلطانه، وكون دولة يتوارث أبناؤه الملك فيها.

وكانت لهذه الدولة علاقة قوية بالقدس، تدل على مكانتها الخاصة في نفوس أمرائها، فقد سيطر محمد بن طُغج الإخشيد عليها وعلى جميع الشام سنة ثلثمائة وثلاثين للهجرة، وبعدها بأربع سنوات حضرته الوفاة في دمشق، فأوصى بأن يدفن في القدس، وقيل إنه توفي في القدس ودفن فيها أيضا.

وتتابع أمراء الإخشيديين بعد مؤسس الدولة، وكلهم يعشق تراب القدس، ويوصي عند حضور أجله بأن يدفن فيها، حدث ذلك مع أنوجور بن محمد الإخشيد سنة تسع وأربعين وثلثمائة، وتكرر مع أبي الحسن بن محمد الإخشيد سنة أربع وخمسين وثلثمائة للهجرة، حيث دفن إلى جوار أبيه وأخيه في تراب بيت المقدس.

وجاء كافور الإخشيدي، وكان من رجال الدولة من خارج البيت الحاكم، فسيطر على شئونها، وخُطب له فوق منابر القدس ومصر والحجاز والشام والثغور، لكنه لم يلبث أن توفي هو الآخر سنة خمس وخمسين وثلثمائة، ودفن في ثرى بيت المقدس.

ويسجل التاريخ أن والي بيت المقدس أيام كافور، ويسمى محمد بن إسماعيل الصُّنْهَاجِيّ، خالف سنة المسلمين في معاملة أهل الكتاب، فأحرق أتباعُه كنيسة القيامة، حتى سقطت قبتها، ونهبوا "كنيسة صهيون" وأحرقوها، وكانت لليهود في ذلك يَدٌ، حتى هدموا وخربوا من ممتلكات النصارى في القدس أكثر مما فعل الوالي وأتباعه.

وبوفاة كافور انهارت الدولة التي لم تجد رجلاً قويًا من البيت الإخشيدي يضبط شئونها، فحل الفاطميون محلهم، وسيطروا على مصر والشام والحجاز.

القدس تحت سيطرة الفاطميين:

أُتيح للعديد من الاتجاهات الشيعية أن تقيم لنفسها دولا في فترات مختلفة من التاريخ الإسلامي، كالزيدية في اليمن، والصفوية في إيران، والفاطمية في القاهرة .. إلا أن الأخيرة هي أشهر هذه الدول، وقد قامت على أشد المذاهب الشيعية تطرفًا، وهو المذهب الإسماعيليّ، وبدأت مسيرتها من المغرب، ثم زحفت شرقا حتى دخلت مصر والشام، وجنوبا حتى استولت على الحجاز واليمن..

وأُتيح للدولة الفاطمية أن تكون إحدى الدول التي عاشت القدس في كنفها زمنا، فاستولوا على المدينة المقدسة سنة ثلثمائة وتسع وخمسين للهجرة، وخُطب من فوق منابر القدس للخليفة الفاطمي دون خلفاء بني العباس القابعين في بغداد، وسعى الفاطميون إلى نشر دعوتهم وبث دُعاتهم في القدس، وأنشأوا دارا علمية لهذا الغرض، على شاكلة دار الحكمة التي شيدوها في قلب القاهرة؛ لنشر مذهب الدولة وتأصيله في مصر.

واهتم خلفاء الفاطميين بمتابعة إعمار المسجد الأقصى عند تعرضه للزلازل وما شابهها، كما كانت لهم سياسات متضاربة تجاه نصارى بيت المقدس ومقدساتهم.

وقد حفظ لنا التاريخ أوصافا ذات قيمة كبيرة لمدينة القدس في ظلال الحكم الفاطمي.

وبعد أكثر من قرن من التواجُد الفاطمي في القدس، جاءت الدولة السُّلْجُوقِيّة الفَتِيَّة سنة أربعمائة وثلاث وستين لتزيح الفاطميين عن المدينة المقدسة، حيث أُعيدت الخطبة فيها باسم الخليفة العباسي.

ودخل الفاطميون والسلاجقة في نزاع ساخن على القدس والمنطقة، مما أدى إلى إضعاف قوى الطرفين، ومُنع الحج المسيحي إلى القدس زمنا وهو الأمر الذي استغلته الدعاية الصليبية لشن الحرب على المنطقة.

وإذا كان الخليفة الفاطمي المستعلي قد أفلح في استرداد القدس من يد السلاجقة سنة أربعمائة وتسع وثمانين للهجرة، فإنها لم تمكث في يده طويلا، حيث سقطت أمام الإعصار الصليبي في شعبان من سنة أربعمائة واثنتين وتسعين، وخرجت لأول مرة من يد المسلمين منذ الفتح العمريّ لها.

موقف الفاطميين من نصارى القدس:

لم تكن أفعال الحاكم بأمر الله مصدر معاناة للمسلمين وحدهم، بل ألحقت أضرارًا كثيرة بأهل الذمة أيضًا، فهذا الحاكم المتناقض كان يتخذ القرارات الغريبة، ثم يُتبعها بما يناقضها، حتى لم تعد الرعية تدري ساعاتِ رضاه من ساعات غضبه!

تجرأ الحاكم وزاد، لأول مرة، على الوثيقة العمرية التي تضمنت شروط الصلح مع أهل بيت المقدس، وتعسف في هذه الزيادة، فاشترط على النصارى "تعليق الصلبان على صدورهم، وأن يكون الصليب من خشب زنته أربعة أرطال، وعلى اليهود تعليق رأس العجل زنته ستة أرطال. وفي الحمّام يكون في عنق الواحد منهم ـ من اليهود والنصارى ـ قِرْبةٌ زنة خمسة أرطال، بأجراس، وألا يركبوا الخيل".

ولم يقف الحاكم عند هذا الحد من الاشتداد في معاملة أهل الذمة، فأمر في سنة ثلثمائة وثمان وتسعين بتخريب كنيسة القيامة، "وأباح للعامة ما فيها من الأموال والأمتعة"، و "أرغمهم على لبس السواد، ومنعهم من الاحتفال بعيد الشعانين".

واستغل الحاكم الشروط الصعبة التي زادها على النصارى، فنُودي في القدس وغيرها من أنحاء الدولة: "من أحب الدخول في دين الإسلام دخل، ومن أقام منهم على دينه فليلتزم بما شُرط عليهم".

وفي انقلاب مفاجئ التزم الحاكم جانب الرفق والمسامحة في معاملة نصارى بيت المقدس وغيرهم، ورفع ما زاده عليهم من شروط، وسمح لهم بتعمير كنيسة القيامة، بل قيل: إنه عمرها على نفقته الخاصة، وأَذِنَ لمن أسلم منهم مُكْرَهًا أن يعود إلى دينه إن شاء.

وقيل إن الحاكم ظل على اضطهاده لأهل الذمة، لم يخفف عنهم إلا قليلاً حتى هلك، فلما تولى ابنه الظاهر سنة إحدى عشرة وأربعمائة، سمح للناس بأن يرجعوا إلى عقائدهم، ويبنوا كنائسهم التي هدّمت.

كانت هذه هي سيرة الحاكم بأمر الله في نصارى الذمة ببيت المقدس، في حين كانت لأبيه العزيز بالله معهم سيرة أخرى، فقد صاهر بطريرك بيت المقدس، وأقام على فلسطين والقدس واليًا نصرانيًا، هو: أبو اليمن قزمان بن مينا الكاتب، الذي انقلب على الدولة، وهرب بمال كثير حين وقع القتال بين الفاطميين وجنود الشام.

ومما أصاب المسلمين في عهد الحاكم بن العزيز من أفعال غريبة، أنه فرض على الناس إذا ذكر الخطيب اسم الحاكم يوم الجمعة على المنبر، أن يقوموا صفوفًا إعظامًا لاسمه، وعمَّمَ ذلك في مملكته، حتى في الحرمين الشريفين وبيت المقدس.

وصف القدس في زمن الفاطميين:

بدت القدس الفاطمية في أعين الرحالة مدينة كبيرة، معتدلة الجو: ليست شديدة البرد، ولا شديدة الحر.. بناياتها من الحجر الجيد، قد أُتقن تشييدها إتقانًا، وامتاز عيشها بالطيب، وأهلها بالعفاف. وأرضها مبلَّطة بالحجارة، وحين ينزل المطر يغسلها غسلاً.

وماء بيت المقدس أعذب وأنقى من أي ماء آخر، إذْ يأتي من المطر مباشرة ومن العيون، وعلى بعد ثلاثة فراسخ من المدينة وضع صهريج كبير ينحدر إليه ماء المطر من الجبل ويتجمع فيه، وأوصلوا هذا الماء إلى المسجد الأقصى في قناة، وجعل الناس في بيوتهم أحواضًا لجمع ماء المطر لحاجاتهم ومعايشهم، وحتى حمَّامات المدينة نفسها، اعتمدت في مائها على هذا الماء الذي ينزل من السماء.

ومن العيون المقدسيّة التي تجود بالماء العذب، عينُ سلوان التي تنبع من الصخر، وقد أقيمت عندها في هذا الزمن بنايات كثيرة.

وكما في كل زمان، شغل المسجد الأقصى قطب الرحَى الذي تدور المدينة حوله، وقد اعتنوا بأن يكون لكل مَحِلَّة باب يؤدي بها إلى المسجد المبارك، فبلغ عدد الأبواب تسعة، مثل: باب النبي بالجدار الجنوبي بجوار القبلة، والباب الشرقي المسمى "باب العين" الذي يؤدي إلى منحدر فيه عين سلوان...

وبدا المسجد الأقصى وسط بنايات المدينة كبيرًا، وكثرت مشاهد الصالحين وقبورهم في المدينة المباركة، كما بدت سوق القدس نظيفة منظمة، تزاول فيها أعمال البيع والشراء بصورة حسنة.

وكان "في بيت المقدس حينئذ - مستشفي عظيم، عليه أوقاف طائلة، ويصرف لمرضاه العديد من العلاج والدواء، وبه أطباء يأخذون مرتباتهم من الوقف".

وبالرغم من كثرة سكان المدينة في هذا الوقت، أكثر من عشرين ألفًا، فقد كانت مقصودة للزيارة من غير أهلها، وفيها الحاذقون من الأطباء، والمهرة من الصناع، الذين انفردت كل طائفة منهم بسوق خاصة بها.

لكن المدينة كانت لا تخلو من عيوب في عيون من رآها في هذا الزمن (القرن الرابع الهجري) ـ على عكس حالها في أغلب تاريخها الإسلامي ـ فحماماتها قذرة، وعلماؤها قليلون، وفقهاؤها مهجورون، يقل قاصدوهم من طلبة العلم، وأدباؤها لا يجدون من يشهد إبداعهم، والسلع غالية لما يفرَض عليها من الضرائب. كما أنه "ليس للمظلوم فيها أنصار"!

الاحتلال الصليبي لبيت المقدس:

في الوقت الذي جاء فيه الصليبيون إلى القدس، لم يكن ممنوعًا على أي مسيحي من أنحاء الدنيا أن يأتي إلى المدينة المقدسة ليحج إلى المواضع التي يقدسها، ككنيسة القيامة، وكنيسة المهد، وكنيسة ستنا مريم، بل كان الطريق دائما مفتوحًا وميسرًا أمامه، سواء أتى من صقيع أوروبا أو من البلاد القريبة المحيطة ببيت المقدس.

وقد أتى بطرس الناسك من جنوب القارة الباردة البائسة حينئذٍ أوروبا، في هيئةٍ رَثَّةٍ، يركب حمارًا، مخترقًا الطريق نحو بيت المقدس، وهناك قضى مناسكه وأدى طقوسه الدينية، وكانت كنيسة القيامة التي خربها الحاكم قد أعيد إعمارُها، فزارها، ولكن قلبه بدلاً من أن يرجع شاكرًا لهؤلاء الذين أتاحوا له فرصة الحج إلى المواضع التي يقدسها، رجع بشيء آخر.

اغتاظ بطرس الناسك ـ وهو رجل دين مسيحي غربي ـ من وقوع كنائس المسيحية وأماكنها المقدسة تحت سيطرة المسيحيين العرب الذين يخالفونه في المذهب والنظرة إلى المسيح، وزاد من غيظه وحقده أنْ تقع مدينة بيت المقدس، مدينة المسيح، تحت سيطرة المسلمين الكفار ـ في رأيه!

وفي طريق العودة راح بطرس الراهب في نوبة من التفكير العميق، حتى شُغل عن رفاقه من الحجيج، وتقلبت في رأسه أفكار وأفكار، حتى قرر أنه لابد من السيطرة على بلد المسيح، وأفضل طريق إلى ذلك تحريض الكنيسة لأوروبا وملوكها على غزو الشرق الإسلامي، وهو التحريض الذي قام به البابا أوربان الثاني منطلقًا من فرنسا.

واستمعت أوروبا إلى خطاب البابا، وتردد صداه في كل أنحاء القارة، واجتمع له الملوك وأصحاب النفوذ، وأعدوا جحافل من القوات والمقاتلين، حتى هبطوا على بلاد الإسلام في الحملة الصليبية الأولى، التي نجحت في الاستيلاء على بيت المقدس سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، وأقامت إمارة بيت المقدس الصليبية.

وفشل المسلمون في صد العدو الزاحف من الغرب لأسباب عديدة، وجاءت الهزيمة نذيرًا شديدًا لهم، ولم يَطُل الزمن حتى تنبه أُولُو الغيرة والدين من المسلمين إلى خطورة الوضع، وسعوا إلى دحر الصليبية، واستخلاص بلاد المسلمين من بين أيديها.

تحريض الكنيسة للأوروبيين:

لم يكن يخفَى أن هنالك مضايقات تعرض لها حجاج المسيحية إلى بيت المقدس أثناء الصراع الساخن بين السلاجقة والفاطميين للسيطرة على بلاد الشام، حتى منع الحج المسيحي وتوقفت الزيارات فترة من الزمن ـ إلا أن الكنيسة البابوية في فرنسا بالغت في تضخيم هذه الحوادث الطارئة، وقامت بحملة شعواء تحرض فيها أوروبا على حرب الكفار من المسلمين!

ففي نوفمبر عام ألف وخمسة وتسعين للميلاد، وقف البابا أوربان الثاني في كاتدرائية مدينة "كليرمونت" جنوب فرنسا يخطب في جموع النصارى، يحرض أوروبا كلها ضد المسلمين فقال: "لقد دخلت الكلاب إلى الأماكن المقدسة، وجرى تدنيس المقدسات، وإذلال الناس عبدة الرب.. كما أن كنيسة القيامة تتحمل حكمهم، وقد دنستها قذارة الذين ليس لهم نصيب في القيامة..".

وزاد في دَغْدَغَة العواطف الملتهبة للجموع من حوله، وقال: "سلِّحُوا، أيها الإخوة، أنفسَكم بغيرة الرب، وشُدُّوا أحزمة سيوفكم على أوساطكم، أيها الجبارون .. فمِن الأفضل أن نستشهد من أن نرى مصائب قومنا ومصائب أقداسنا...".

ودعا البابا الجموع المنصتة إليه، في لحظة تاريخية خطيرة وفاصلة، إلى غزو الأرض التي تفيض "لبنًا وعسلاً" حتى تقوى عزيمة الجميع في طلب الدنيا، إن لم تكن لديهم عزيمة لخدمة دينهم!

وقال بطرس الناسك: "إني نظرت قبر المسيح محتَقَرًا مُهانًا، وزوَّارُه مضطهدون"، فنادى الحاضرون بالحرب قائلين: "الله يريد ذلك"!

وراح أتباع البابا ينتشرون في الشارع الأوروبي، يدعون الناس في خطاب مثير إلى إنقاذ الأرض المقدسة، واسترجاعها من يد المسلمين الذين اغتصبوها، وأهانوا ما فيها من المقدسات ـ كما أشاعوا…

وسار هذا الخطاب الدعائي، الذي لم يهتم بالتزام الحقيقة، في أنحاء أوروبا، ووصلت مخاطبات البابا للملوك والأمراء في أوروبا تحرضهم على الخروج مع الجموع الذاهبة لتخليص "بلد المسيح" ! فقد كانت القدس ـ كما بدا ـ هي مقصدهم وهدفهم، لكن لعابهم سال للخيرات التي تمتلئ بها مدن الشام المحيطةُ ببيت المقدس، فاحتلوا العديد منها أيضًا، وبدا أن وراء الحرب أهدافا أخرى خفية.

دوافع الحروب الصليبية:

في دعوتها لشن الحروب الصليبية، نجحت البابوية في تصويرها على أنها حرب مقدسة، لتخليص بلد المسيح من يد "الهمج" المسلمين، وركَّز الخطاب البابوي على ذلك، مستغلاً العاطفة الدينية لدى نصارى الصقيع الأوروبي.

لقد بدا الدين دافعًا ظاهريًا لشن "حرب (أوروبية) مقدسة" ضد المسلمين، أخذت اسمها عند الأوروبيين أنفسهم من أحد الرموز الكبرى في العقيدة النصرانية في الشرق والغرب، وهو الصليب.

لكن كان هذا هو الدافع الظاهر فقط، وإن كان له تأثير ضخم في إشعال حماس العامة الذين دُعوا إلى الخروج للحرب في الشرق.

أما الدوافع الحقيقية والعميقة لشن الحروب الصليبية، فهي:

ـ توسيع سلطة البابا بالسيطرة على الأماكن المسيحية المقدسة في الشرق، وإلغاءِ السيطرة المسيحية الأرثوذكسية هناك، ونجدة البيزنطيين الذين تعرضوا لانكسارات وهزائم متعددة أمام السلاجقة، وهو أمر يتيح للبابا قيادة الكنيسة المسيحية في كل مكان، حتى في الدولة البيزنطية.

ـ شَغْلُ الأمراء والإقطاعيين الأوروبيين بالحرب في الشرق، بدلاً من التقاتل الداخلي فيما بينهم.

ـ الانتفاع بما في الشرق من ثراء لإنعاش الحياة الأوروبية، فالبلاد التي يتوجه إليها الغزاة الصليبيون تفيض "لبنًا وعسلاً"!

الحملة الصليبية الأولى:

ما لبثت الدعاية البابوية لشن حرب شرسة في الشرق، أن آتت أكلها، على مستوى الأمراء وعلى مستوى الجماهير، واتفقوا على الالتقاء والتجمع في نقطة من الشرق الأوروبي على شواطئ بحر مرمرة وهي القسطنطينية.

وخرجت الجموع عشرات الآلاف، من فرنسا وإيطاليا والنمسا والمجر وألمانيا وبولنده، يقودهم الرهبان، وأمراء الإقطاعات والممالك الأوروبية، وتقدم الجميع وسبقهم في طريق البر الراهب بطرس الناسك، يلبس ثيابًا مهلهلة، ويسير حافي القدمين، ممسكًا بالإنجيل والصليب، وحوله حشود كبيرة من الناس، فيهم الرجال والنساء والأطفال ـ خرج بهم من ألمانيا في مايو عام ألف وستة وتسعين للميلاد (أربعمائة وتسعين للهجرة).

ولم يَبْدُ على بطرس ومن معه أنهم يصلحون لخوض حرب ضد المسلمين، فما هم إلا رعاع وغوغاء دفعتهم الحماسة الكاذبة إلى ما لا يطيقون، بل هم ـ على حد تعبير المؤرخين الغربيين: "جماعات من الأفاقين لا يَستحقون مشاهدةَ قبر المسيح"!

وعبروا المجر وبلاد البلقان صوب القسطنطينية، فنهبوا البلاد والقرى، ونال القسطنطينيةَ منهم شرٌّ كثير، "فأحرقوا القصور، ونهبوا الكنائس". فبعث الإمبراطور البيزنطي إلى البابا قائلاً: "إن كنتم تريدون حقًا الوصولَ إلى بيت المقدس، فابعثوا جيوشًا منظمة وفرسانًا مدربين".

ومن هنا بدأ الأمراء الأوروبيون يحشدون قواتهم وجيوشهم المنظمة للذهاب إلى الشرق، ودخول بيت المقدس. وتتابعت الحشود في هذه الحملة الصليبية الأولى، تسلك نحو بيت المقدس طريق البحر وطريق البر من وسط أوروبا وسهول إيطاليا الجنوبية، وأحلام النصر تداعب خيالات الجميع، والجنة التي حدثوهم عنها في بلد المسيح وما فيها من "العسل واللبن" تتراءى لخيالاتهم، وتختلف صورتها الخيالية من شخص إلى آخر!!

ومن أمراء أوروبا الذين شاركوا في هذه الحملة: الدوق جود فري دي بويُّون أمير اللورين السفلى، وأخوه اللورد بولدوين، واللورد بوهيمُوند أمير تورنتو في جنوب إيطاليا، وريموند أمير تولوز، وروبورت أمير نورماندي، وغيرهم.

وبدلاً من اللقاء في القسطنطينية، التقت الجيوش الصليبية عند نيقية، التي استولوا عليها في يونيه سنة ألف وسبع وتسعين للميلاد، بعد حصار دام شهرًا.

وتساقطت المدن في يد الحملة الصليبية الأولى الواحدة تلو الأخرى، حيث سيطروا على مدن كثيرة قبل احتلالهم القدس وبعده، وهي: الرها وأنطاكية (التي خرجت جماعات من مسلمي القدس ودمشق وحلب لإنقاذها) ومعرة النعمان وانطرطوس وطرابلس وبيروت وصيدا وعكا وحيفا وقيسارية والرملة. وفي السابع من يونيه سنة ألف وتسع وتسعين وصلوا إلى أسوار القدس، التي دخلوها بعد حوالي أربعين يومًا من الحصار.

سقوط القدس في يد الصليبيين:

"اللهُ يريد ذلك.. الله يريد ذلك"، هكذا انطلقت الصرخات من أفواه جموع كبيرة، شُقْرِ الشَّعْر زُرْقِ العيون، يضعون على الكتف الأيمن أو الكتفين صليبًا من قماش أحمر، وهم أهل الحملة الصليبية الأولى، ويقصدون بصُراخهم أن الله يريد حرب المسلمين!

وهاهم في شهر رجب الفرد من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة للهجرة، يقفون عند أسوار مدينة القدس المباركة في حر يونيو المرتفع، ولُعابهم الجاف يسيل لدخولها! وعلى المدينة أمير من قِبَلِ الفاطميين (افتخار الدولة) في مدينة حصينة، بصحبته أربعون ألف مقاتل، توافد أكثرهم على المدينة من خارجها.

بدأ "افتخار الدولة" أعماله الدفاعية مع اقتراب الزحف الصليبي، فردم العيون والآبار الواقعة خارج المدينة، ليمنع الصليبيين من التزود من مائها، وحشد الجنود في مداخل المدينة الخطرة، ووضع الحراسة على الحصون والأبراج، ليراقبوا أعمال الصليبيين لمواجهتها بسرعة، كما أعد الكمائن التي تتصيد المنفردين من الصليبيين عن جماعتهم بحثًا عن الماء، أو بحثًا عن فرصة لاقتحام الحصون المقدسية.

ودعم افتخار الدولة أبراج المدينة بأكياس من القطن والخرق البالية، لتمتص عن الحصون صدمة الأحجار التي تقذفها المجانيق الصليبية.

وحولَ الأسوار وزّع الصليبيون قواتهم في الجهات التي يمكن اقتحام المدينة منها، خاصة في الشمال والشمال الغربي، لكن حرارة الصيف في عام تسعة وتسعين وألف كانت سيدة الموقف، وصاحبة التأثير الكبير في سير المعركة، حيث عجز الصليبيُّ الأوروبيُّ عن الصبر على حرارة الشمس التي لم يكن له بها عهد، والعطش الشديد المصاحب لها. "ومما زاد في قلق الصليبيين أن المُؤَنَ بدأت تنفد في المعسكرات، دون أن تتمكن قيادتهم من تأمين ما يمكن أن يسد حاجتهم لأمد طويل".

لم يكن أمام الصليبين حل إزاء هذا الوضع سوى المبادرة بالهجوم، فاندفعوا في ضراوة هائلة لاقتحام أسوار القدس المباركة، وبدأ القتال عند فجر اليوم السادس للحصار، والمسلمون صابرون يدفعون عدوهم بكل ما يملكون من القوة، ومع أن الصليبيين لم يستطيعوا اقتحام المدينة إلا أنهم سيطروا على سورها الشمالي من الخارج، وافتقروا إلى أدوات تسلق الأسوار فرجعوا إلى مواقعهم ليستعدوا لهجوم جديد.

قضى الصليبيون قرابة شهر في الاستعداد للهجوم الحاسم، ومقاومة الانخفاض في معنويات جنودهم، الذين أرهقهم القتال والحر الشديد، وقرروا الهجوم من نقطة صعبة من المدينة، إلا أنها أقل تحصينًا، وهو الجانب الشمالي الشرقي من سور القدس، من باب دمشق غرباً، حتى باب الساهرة، فباب يهوشافاط شرقًا.

وركّز المهاجمون القتال على محورَيْنِ: أحدهما من باب الساهرة باتجاه الحرم القدسي الشريف، والآخر من جبل صهيون باتجاه حصن داود. واستطاع المقاتلون على المحور الأول بقيادة جودفري دي بويون اقتحام سور القدس عن طريق برج متحرك، قربوه من السور، ثم قفزوا متتابعين من فوقه إلى داخل المدينة، وهناك ارتكبوا مذبحة رهيبة في المسجد الأقصى، ثم فتحوا باب العمود أمام بقية قواتهم، وواصلوا أعمالهم البشعة في المدينة.

وأما المحور الثاني، فقد لقي الصليبيون فيه مقاومة أشد بقيادة حاكم المدينة "افتخار الدولة"، لكن نجاح أعمال المحور الأول حطم هذه المقاومة، فسقطت المدينة المقدسة كلها في يد الصليبيين في يوم الجمعة الثالث والعشرين من شهر شعبان سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، الخامس عشر من يوليو سنة تسع وتسعين وألف. وعملوا منذ اللحظة الأولى للاحتلال على صبغ المدينة بصبغتهم.

وكان سقوط القدس صدمة كبيرة في العالم الإسلامي، ووقفت وراء الهزيمة أسباب عديدة.

تحصينات القدس قبل السقوط:

كانت القدس "من أضخم المعاقل والحصون في عالم العصور الوسطى"، وقد اهتم كل من ملكها منذ القدم بتحصينها وتقوية أسوارها، لحمايتها، ودفع طمع الطامعين عنها، وقد كان هذا سلاحًا مهمًا في يد المسلمين عند الزحف الصليبي على المدينة المقدسة.

ظهر أنه ليس في استطاعة الصليبيين حصار المدينة أو دخولها، إلا من جهتها الشمالية أو زاويتها الشمالية الغربية، وأما باقي الجهات فبها مجموعة من الأودية الصعبة التي تستعصي على العبور، إذ يلف القدس من الشرق والجنوب الشرقي وادي قدرون أو وادي جهنم، ومن الجنوب وادي الربابة، ومن الغرب يلفها وادي تيروبيون.

وإضافة إلى هذه التحصينات الطبيعية، فقد قام في منتصف السور الغربي من المدينة ـ الذي يسيطر على جزء كبير من محيط المدينة ـ حصنُ داود المنيع. وكذلك الخنادق المحفورة خارج سور المدينة في الشمال والشمالين الشرقي والغربي.

وأما ماء المدينة، فقد كان من المطر، لذا كثرت في القدس الصهاريج التي يُجمَع فيها هذا الماء، وخُزِّن الكثير منه عندما علم المسلمون بقدوم الصليبيين، استعدادًا لمقاومة حصار صليبي يُتوقع أن يطول.

التواجد البشري في القدس قبل سقوطها:

هبط الصليبيون على أسوار القدس، والمسلمون فيها ستون ألفًا، أبوا أن يتركوا المدينة فريسة بين يدي الصليبيين بالرغم مما بلغهم عن الفظائع التي ارتكبوها في زحفهم على الشرق الإسلامي.

بلغ تعداد سكان المدينة قبيل الاحتلال عشرين ألفًا، معهم حامية من الجنود تقدر بألف مقاتل، ويقودها الأمير الفاطمي "افتخار الدولة"، فلما أخذ الخطر يقترب من بيت المقدس، استيقظ الكثير من المسلمين في المدن والحصون القريبة منها، فتوافدوا نحو المدينة لحمايتها في أعداد كبيرة، حتى بلغوا أربعين ألفًا.

وقد كانت الروح المعنوية للمسلمين في المدينة يشوبها شيء من التوتر، خاصة مع الانتصارات والمذابح الصليبية المتكررة في مدن مجاورة. غير أن الجموع المسلمة في المدينة فضلت الصمود على النجاة الذليلة بالأرواح، بل وفد الكثير من المجاهدين إلى القدس ليقدموا بين يدي الله أعذارهم!

وأما المسيحيون من أهل القدس، فلم يفرض "افتخار الدولة" عليهم قتال أهل ملتهم، فخرجوا من المدينة، وجنوا هم أيضا من ثمار الاحتلال الصليبي المرة!

الاقتحام الوحشي للقدس:

"كان من المستحيل أن يطالع المرء كثرة القتلى دون أن يستولي عليه الفزع، فقد كانت الأشلاء البشرية في كل ناحية، وغطت الأرض دماء المذبوحين، ولم تكن مطالعة الجثث ـ وقد فارقتها رءوسها ـ ورؤية الأعضاء المبتورة المبعثرة في جميع الأرجاء هي وحدها التي أثارت الرعب في نفوس جميع من شاهدوها، بل كان هناك ما هو أبعث على الفزع، ألا وهو منظر المنتصرين أنفسهم وقد تخضبوا بالدماء فغطتهم من رؤوسهم إلى أخْمَصِ أقدامهم، فكان منظرًا مروِّعًا بث الرعب في قلوب كل من قابلوهم، ويقال إنه قتل في داخل ساحة المسجد وحدها عشرة آلاف من المارقين (يقصد المسلمين!)، بالإضافة إلى أن القتلى الذين تناثرت جثثهم في كل شوارع المدينة وميادينها لم يكونوا أقل عددًا ممن ذكرناهم".

"انطلق بقية العسكر يَجُوسُونَ خلالَ الديار بحثا عمن لازال حيًّا من التعساء الذين قد يكونون مختَفِينَ في الأزقّة والدروب الجانبية فرارًا من الموت، فكانوا إذا عثروا عليهم سحبوهم على مشهد من الناس، وذبحوهم ذبح الشياه. وجعل بعض العسكر من أنفسهم عصابات انطلقت تسطو على البيوت ممسكين بأصحابها ونسائهم وأطفالهم، وأخذوا كل ما عندهم ثم راحوا يقتلون البعض بالسيف، ويقذفون بالبعض الآخر من الأمكنة العالية إلى الأرض فتتهشم أعضاؤهم، ويهلكون هلاكًا مروعًا"!

هكذا وصف وليم الصوري ـ الأسقف والمؤرخ الصليبي ـ بعض آثار قومه في القدس أثناء اقتحامهم لها. . لم يكن هنالك فرق كبير بين اقتحام البابليين والرومان الوثنيين للقدس وبين اقتحام الصليبيين لها، سوى أن الأخيرين ينسبون أنفسهم إلى ديانة سماوية، وإلى رسول كريم عاش حياته رفيقًا رقيقًا زاهدًا، وهو عيسى ـ عليه السلام.

فبينما كان الصليب هو الرمز والخلفية التي تدير الحدث، كانت أرض القدس ملونة بحمرة الدم القانية، وأشلاءُ المسلمين وأعضاؤهم المقطعة في كل مكان تشبه لوحة سريالية رسمتها وحوش البرّية!

نجح الصليبيون في اقتحام أسوار المدينة قبل شهر رمضان من سنة اثنين وتسعين وأربعمائة بأسبوع واحد، وسقطت المقاومة الإسلامية أمامهم، وانتهى المسلمون عن القتال، بل فروا من أمام عدوهم فرارًا تعيسًا. ولم يكن نبل الخلق هو الذي يحرك المنتصر الجديد، ففعلوا في المدينة الأفاعيل، حتى قتلوا المسلمين في المسجد الأقصى، وأحْرَقُوا اليهود في داخل معبدهم.

ويكفي أن المدينة خلت تمامًا من المسلمين واليهود عقب دخول الصليبيين لها، ولم ينج من المسلمين سوى أمير القدس الفاطمي "افتخارالدولة" في بعض جنوده، حيث انضم بهم إلى جموع المسلمين المقاتلين في عسقلان.

وبكت المدينة المباركة دما لقسوة الغزاة، وشوقا إلى أيام عمر بن الخطاب فيها وفتح عمر لها!!

القوات الصليبية المهاجمة للقدس:

قبل حلول فصل الصيف من سنة ألف وتسع وتسعين كانت الحملة الصليبية الأولى قد حققت كثيرًا من أحلامها باستيلائها على نيقية وأنطاكية والرها وغيرها، إلا أنها لم تكن قد وصلت إلى هدفها الأول، وهو بيت المقدس، بالرغم من مرور أكثر من سنتين على بداية الحملة.

وقد شكل الصليبيون جيشًا قويًّا منهم، يتولى مهمة الاستيلاء على القدس، تعداده أربعون ألف مقاتل، من أعمار مختلفة ذكورًا وإناثًا، يقود جزءًا منه أمير النورماندي، ويقود الجزء الآخر أمير الفلاندر، ثم جودفري دي بويون أمير اللورين، ثم قوات تانكرد ابن أخت بوهيموند أمير تورنتو، وأخيرًا ريموند دي سان جيل أمير تولوز.

وكان هؤلاء القادة بقواتهم هم الذين نالوا شرف ذبح المدينة المباركة وأهلها!! فتوزعت القوات لتخنق المدينة من الجوانب الممكنة منها، وضربوا الحصار حولها، فتمركزت قوة في الجهة الشمالية ناحية باب الساهرة، وقوة في الشمال الغربي جهة باب العمود أو باب دمشق، وأخرى في الشمال الغربي أيضا عند زاوية المدينة الشمالية الغربية، وقوة رابعة في الغرب عند باب يافا أو باب الخليل، وفي الجنوب تمركزت قوة أخرى على جبل صهيون وتجاه باب النبي داود.

وقد كانت الروح المعنوية للقوات الصليبية عالية، فقد حققوا انتصارات متتالية، انتزعوا فيها من المسلمين مجموعة من المدن المهمة، كما قوَّى الروح المعنوية للحملة الصليبية أنهم على مقربة من بيت المقدس، المدينة التي أحبوها لدرجة الهوس.

أسباب هزيمة المسلمين أمام الصليبيين:

كان سقوط معرة النعمان وطرابلس وأنطاكية وغيرها في يد الصليبيين نذيرًا كافيًا للمسلمين ليقوموا من رقدتهم، ويَحْمُوا القدس بل يحموا ذاتهم من المَحْوِ والسقوط تحت أقدام الغزاة القادمين من الغرب، لكن يبدو أن النوم كان أثقل من ذلك!!

وسقطت القدس بعد أخواتها مباشرة، في شعبان من سنة اثنتين وتسعين وأربعمائة، لتكشف عن الأدواء القاتلة التي أصابت الجسد المسلم، وأدت إلى الهزيمة المريرة!

لقد حكمت المطامع الشخصية كثيرًا من تصرفات المسلمين حينئذ، وبدا رباط العقيدة واهيًا ضعيفًا، ووهنت صلة الناس بربهم، فصارت الدنيا عندهم ـ إلا من رحم الله ـ هدفًا وغاية، يسعون للوصول إليه ولو ولغوا في دماء إخوانهم!

وبدت الفرقة والتنازع لونًا لأغلب جوانب حياة المسلمين في الجيل الذي تلقى الصدمة الصليبية الأولى، ليس على مستوى الحكام وحدهم، ولكن على مستوى الأمة أيضًا، فما أكثر ما قال المؤرخون عن سنوات هذه الفترة: "فيها وقعت فتنة بين السُّنَّة والروافض (الشيعة)، فأحرقت محالُّ كثيرة، وقتل ناس كثير، وإنا لله وإنا إليه راجعون"!!

وفي القدس نفسها ـ كما يقول ابن المدينة الرحالةُ المقدسيّ ـ لم يكن "للمظلوم أنصار، والمستورُ مهموم، والغني محسود، والفقيه مهجور، والأديب غير مشهود، لا مجلس نظر ولا تدريس، وقد غلب عليها النصارى واليهود، وخلا المسجد من الجماعات والمجالس".

هكذا بدت البنية العميقة للمجتمع المسلم قابلةً للهزيمة بسهولة، وساعدها على ذلك مناخ الفرقة والتنازع العام، فالخلافة العباسية عاجزة عن تجميع المسلمين تحت لوائها، والسلاجقة الذين حاولوا القيام بهذه المهمة انشغلوا بالصراع مع الفاطميين في الشام وحول القدس نفسها، دون أن يتمكن أي من الفريقين من تحقيق نصر حاسم. والخلافة الفاطمية كانت في مرحلة الاحتضار، خاصة بعد سلسلة المجاعات والكوارث التي حلت بمصر في عهد المستنصر بالله الفاطمي.

وحل بالمسلمين ارتباك وفقدان للأمن في أنحاء دولتهم الكبيرة بسبب النزاع المستشري بين ملوكهم، ووصل أثر ذلك إلى أقدس رحلة للمسلمين، وهي رحلة الحج، فقبل سقوط القدس في يد الصليبيين بخمس سنوات فقط "لم يحج أحد لاختلاف السلاطين"، وفي العام التالي "لم يحج أحد من أهل العراق"!!
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تاريخ فلسطين**2**
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتـــدى SkAnDeR لكــل العــرب :: منتديات التعليــــــم :: تاريـخ و ثقافـات-
انتقل الى: